الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: خصائص التصور الإسلامي ومقوماته **
والخاصية السادسة من خواص التصور الإسلامي هي .. الواقعية .. فهو تصور يتعامل مع الحقائق الموضوعية، ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي. لا مع تصورات عقلية مجردة، ولا مع "مثاليات" لا مقابل لها في عالم الواقع، أو لا وجود لها في عالم الواقع. ثم إن "التصميم" الذي يضعه للحياة البشرية يحمل طابع الواقعية كذلك، لأنه قابل للتحقيق الواقعي في الحياة الإنسانية… ولكنها في الوقت ذاته واقعية مثالية، أو مثالية واقعية، لأنها تهدف إلى أرفع مستوى وأكمل نموذج، تملك البشرية أن تصعد إليه.. وسنحاول هنا شرح هذين المدلولين من مدلولات الواقعية، في التصور الإسلامي: إنه يتعامل مع الحقائق الموضوعية. ذات الوجود الحقيقي المستيقن، والأثر الواقعي الإيجابي.. يتعامل مع الحقيقة الإلهية، متمثلة في آثارها الإيجابية، وفاعليتها الواقعية … ويتعامل مع الحقيقة الكونية، متمثلة في مشاهدها المحسوسة، المؤثرة. أو المتأثرة … ويتعامل مع الحقيقة الإنسانية، متمثلة في الأناسّي كما هم في عالم الواقع.. الإله الذي يتعامل معه هذا التصور هو "الله" المتفرد بالألوهية، وبكل خصائص الألوهية. ولكن هذه الخصائص كلها من عالم الواقع، ذات أثر في عالم الواقع، يمكن إدراك آثارها الواقعية، ولا يضرب العقل البشري في التيه ليتمثلها على هواه، في سلسلة من القضايا المنطقية المجردة – على طريقة "الميتا فيزيقا" بصفة عامة –ولكنها تتمثل في آثاره –سبحانه- في هذا الكون.. فالألوهية وخصائصها واقعية الأثر في هذا الكون. والإدراك البشري يحال إلى هذه الآثار الواقعية، ليرى فيها خصائص الألوهية، ممثلة في الصنعة الإلهية: (الروم: 17-27) (الأنعام: 95-103) (النمل: 59-64) (الشورى: 11-12) (فاطر: 41) وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع إله "موجود"، يدل خلقه على وجوده، "مريد". "فعال لما يريد" تدل حركة هذا الكون وما يجري فيه على إرادته وقدرته. ومن ثم يفترق تصور الإله في الإسلام افتراقاً رئيسياً عنه في تصورات أفلاطون وأرسطو وأفلوطين. حيث تتعامل تصوراتهم مع إله "مثالي" يفرضون هم عليه "مثالية" من صنع عقولهم، ومن تصورات أحلامهم. وهو إله لا إرادة له ولا عمل. لأن هذا من مقتضى كماله أو مثاليته! ثم يضطرهم هذا الافتراض إلى افتراض وسائط شتى بين الإله والخلائق، وإلى تصورات وثنية وأسطورية كالتي كانت سائدة في الوثنية الإغريقية: "فالوجود في مذهب أفلاطون طبقتان متقابلتان: طبقة العقل المطلق، وطبقة المادة الأولية أو الهيولي “Hyle” والقدرة كلها من العقل المطلق، والعجز كله من الهيولي .. وبين ذلك كائنات على درجات، تعلو بمقدار ما تأخذ من العقل، وتسفل بمقدار ما تأخذ من الهيولي. "وهذه الكائنات المتوسطة، بعضها أرباب، وبعضها أنصاف أرباب، وبعضها نفوس بشرية. وقد ارتضى أفلاطون وجود تلك الأرباب المتوسطة، ليعلل بها ما في العالم من شر ونقص وألم، فإن العقل المطلق كمال لا يحده الزمان والمكان، ولا يصدر عنه إلا الخير والفضيلة. فهذه الأرباب الوسطى هي التي تولت الخلق، لتوسطها بين الإله القادر والهيولي العاجزة.. فجاء النقص والشر والألم من هذا التوسط بين الطرفين !!! ". "وكل هذه المظاهر المادية بطلان وخداع، لأنها تتغير وتتلون، وتتراءى للحس على أشكال وأوضاع لا تصمد على حال". " وإنما الصمود والدوام للعقل المجرد دون غيره. وفي العقل المجرد تستقر الموجودات "الصحائح" أو المثل كما سميت في الكتب العربية. وهي كالعقل المجرد خالدة دائمة. لا تقبل النقص ولا يعرض لها الفساد !!! " " وهذه الصحائح هي المثل العليا لكل موجود يتلبس بالمادة أو الهيولي. فكل شجرة مثلاً فيها صفة أو صفات ناقصة من نعوت الشجرية. فأين هي الشجرة التي لا نقص فيها؟ هي في عقل الله منذ القدم. وكل تلبس بالمادة من خصائص الشجرية، فهو محاكاة لذلك المثل الأعلى". "والله عند أرسطو هو العلة الأولى، أو المحرك الأول. " فلا بد لهذه المتحركات من محرك، ولابد للمحرك من محرك آخر متقدم عليه. وهكذا حتى ينتهي العقل إلى محرك بذاته، أو محرك لا يتحرك، لأن العقل لا يقبل التسلسل في الماضي إلى غير نهاية. "وهذا المحرك الذي لا يتحرك لابد أن يكون سرمداً، لا أول له ولا آخر، وأن يكون كاملاً منزهاً عن النقص والتركيب والتعدد، وأن يكون مستغنياً بوجوده عن كل موجود. " وهذا المحرك سابق للعالم في وجوده، سبق العلة لا سبق الزمان، كما تسبق المقدمات نتائجها في العقل، ولكنها لا تسبقها في الترتيب الزمني. لأن الزمان حركة العالم، فهو لا يسبقه. أو كما قال: "لا يُخلَق العالم في زمان". "وعلى هذا يقول أرسطو بقدم العالم على سبيل الترجيح الذي يقارب اليقين. إلا أنه يقرر في كتاب "الجدل" أن قدم العالم مسألة لا تثبت بالبرهان. "وإجمال براهينه في هذه القضية: أن إحداث العالم يستلزم تغييراً في إرادة الله. والله منزه عن الغير. فهو إذا أحدث العالم، فإنما يحدثه ليبقى –جل جلاله- كما كان. أو يحدثه لما هو أفضل. أو يحدثه لما هو مفضول. وكل هذه الفروض بعيدة عما يتصوره أرسطو في حق الله. فإذا حدث العالم وبقي الله كما كان، فذلك عبث. والله منزه عن العبث. وإذا أحدثه ليصبح أفضل مما كان، فلا محل للزيادة على كماله. وإذا أحدثه ليصبح مفضولاً، فذلك نقص يتنزه عنه الكمال! "وإذا كانت إرادة قديمة لا تتغير، فوجود العالم ينبغي أن يكون قديماً كإرادة الله. لأن إرادة الله هي علة وجود العالم. وليست العلة مفتقرة إلى سبب خارج عنها، فلا موجب إذن لتأخر المعلول عن علته، أو لتأخر الموجودات عن سببها الذي لا سبب غيره. "فالإنسان يجوز أن يريد اليوم شيئاً ثم يتأخر إنجازه، لنقص الوسيلة، أو لعارض طارئ، أو لعدول عن الإرادة. وكل ذلك ممتنع في حق الله! "وقد أفرط أرسطو في هذا القياس، حتى قال: إن الله –جل وعلا- لا يعلم الموجودات، لأنها أقل من أن يعلمها. وإنما يعقل الله أفضل المعقولات. وليس أفضل من ذاته، فهو يعقل ذاته، وهو العاقل والعقل والمعقول. وذلك أفضل ما يكون !!! ". "وقد بلغ أفلوطين غاية المدى في تنزيه الله. فالله عنده فوق الأشباه. وفوق الصفات، ولا يمكن الإخبار عنه بمحمول يطابق ذلك الموضوع. "بل هو عنده فوق الوجود ! "وليس معنى ذلك أنه غير موجود، أو أنه عدم – لأن العدم دون الوجود وليس فوق الوجود – وإنما معناه أن حقيقة وجوده لا تقاس إلى الجواهر الموجودة، ولا تدخل معها في جنس واحد، ولا تعريف واحد. فهو "أحد" بغير نظير في وجوده، ولا في صفاته، ولا في كل منسوب إليه. "ويغلو أفلوطين أحياناً فيقول: إن الله لا يشعر بذاته. لأنه لا يميز ذاته من ذاته فيعرفها. ولكنه لصفات وجوده يتنزه عن ذلك التمييز، ويتنزه عن ذلك الشعور!!!". وهكذا نجد في هذه التصورات، وهي أعلى ما وصل إليه الفكر البشري في تصور كمال الله وتنزيهه – إلهاً من "صنع" الفكر البشري! إلهاً لا وجود له في عالم الحقيقة والواقع! لأن صفاته وخصائصه منتزعة من فروض عقلية مجردة، لا من النظر في واقع الوجود، وما يوحى به من صفات الخالق لهذا الوجود. ولا من الوحي الذي يصف الله –سبحانه- كما هو في الحقيقة! ومن ثم تشتط هذه التصورات في "مثالية" لا رصيد لها من الواقع. لأنها لم تؤخذ من الواقع. إنما أخذت من التجريد العقلي. والفروض العقلية. وتنتهي هذه المثالية إلى نقص وعجز في تصور الكمال الإلهي – كما نرى من المقتبسات السابقة – في الوقت الذي تريد أن تبالغ في تقرير هذا الكمال. وحين تقاس هذه المحاولات إلى التصور الإسلامي، يتبين معنى "الواقعية" التي تعنيها. فالحقيقة الإلهية في التصور الإسلامي، حقيقة فاعلة في هذا الوجود، وتلتمس خصائصها وصفاتها في آثارها الواقعية في هذا الوجود. وهذا ما يفصله القرآن الكريم وهو يصف الحقيقة الإلهية للناس، وهو يعرّفهم بربهم تعريفهاً يسيراً عميقاً واضحاً، وهو يستشهد بواقع الكون وواقع الناس، في منطق فطري واقعي جميل. بمثل هذه الواقعية يواجه التصور الإسلامي الكون.. فهو يتعامل مع هذا الكون الواقعي الممثل في أجرام وأبعاد. وأشكال وأوضاع، وحركات وآثار وقوى وطاقات. لا مع الكون الذي هو "فكرة" مجردة عن الشكل والقالب. أو الكون الذي هو "إرادة" ممثلة في شكل وقالب. ولا مع الكون الذي هو "هيولي" ومادة أولية غير مشكلة، أو الكون الذي هو "صورة" أو "مثال" في العقل المطلق! أو الكون الذي هو "الطبيعة" الخالقة! التي تطبع الحقائق في العقل البشري! ولا مع الكون الذي هو عدم أو شبيه بالعدم.. إلى آخر هذه الأسماء، التي ليس لها مدلول "واقعي" يتعامل معه "الإنسان". الكون هو هذا الخلق ذو الوجود الخارجي الذي يدركه الإنسان، ويوجه إليه قلبه وعقله في القرآن. هو هذه السماوات والأرض. هذه النجوم والكواكب.. هذه الكائنات الميتة والحية. والظواهر الكونية هي هذه الحياة وهذا الموت. وهذا الليل وهذا النهار. وهذا النور وهذا الظلام. وهذا المطر والبرق والرعد.. وهذا الظل وهذا الحرور. وهذه الأحوال والأطوار ذات الوجود الحقيقي، وذات الآثار الحقيقية. وحين يوجه الإسلام الإدراك الإنساني إلى هذا الكون .. كدليل على وجود خالقه ووحدانيته، وقدرته وإرادته، وهيمنته وتدبيره، وعلمه وتقديره… فإنه يوجهه إلى هذا الكون ذي الكينونة الواقعية، والآثار الواقعية .. ولا يوجهه إلى كون هو "فكرة" مضمرة، أو "إرادة" منفّذة، ولا يوجهه إلى كون هو صورة في عقل الإله، أو "هيولي" تعارض تلك الصورة، أو تشوهها عندما تتلبس بها! ولا يوجهه إلى كون هو من صنع العقل، أو إلى كون هو صانع العقل.. إلى آخر هذه التصورات البحتة التي تتعامل مع نفسها، ولا تتعامل مع الواقع الكوني إطلاقاً! الكون في التصور الإسلامي هو هذه الخلائق التي أبدعها الله، وقال لها: كوني فكانت، والتي نسقها الله بحيث لا تتعارض ولا تتصادم، والتي هي خاضعة لله، عابدة له، مسخرة لأمره، مؤدية لما أراده منها، ولما سخرها له، على أحسن وجه من الأداء: (الأنعام: 1) (يونس: 3-6) (الرعد: 2-4) (الحجر: 16-23) (النحل: 81) (الأنبياء: 30-33) (الحج: 5-7) (الحج: 65-66) (المؤمنون: 17-19) (فاطر: 27-28) (ق: 6-11) (الملك: 1-5) (الفرقان: 45-49) وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع كون له وجود واقعي. يختلف بطبيعة الحال عن "وجود الله" سبحانه. ولكنه وجود له خصائص مدركه من واقع هذا العالم، وليست منتزعة من تصورات ذهنية مجردة، ولا من دعاوى يمليها الهوى من غير دليل! وتتضح واقعية هذا الكون في التصور الإسلامي، حين نستعرض –على سبيل المثال- تصور "البراهمية". واعتبارها أن الوجود الواحد هو وجود "براهما" – الإله الأعظم – أما هذا الكون المادي فهو "عدم محض يقابل ذلك "الوجود" .. غير أن "الوجود" حلّ في "العدم" ومن ثم وجد الشر في العالم. لأن الوجود خير محض وكما محض. أما العدم، فهو شر محض أو نقص محض. وخطة الإنسان للتخلص من الشر –وهو كل ما له جسم- تنحصر من هذا الجسم، لكي يعود "الوجود" الذي فيه إلى وصفه المطلق. وينطلق من إسار هذا "العدم" الناقص الشرير الذي حل فيه!. كذلك تتضح واقعية الكون في التصور الإسلامي، حين نراجع تصور أفلاطون لهذا الوجود المادي. وأنه مجرد ظل لعالم المثل. فالشجرة التي تراها هي ظل لمثال الشجرة المكنون في العقل المطلق! وهو ناقص لا يمثل كمال المثال الذي هو في عقل الإله و "النفس الكلية" – التي هي من عالم المثل- هي الصلة بين الأشياء "المثالية" كما هي في العقل المطلق، والأشياء الصورية ظلال المثل –غير الحقيقية- التي هي في عالم المادة، الذي نلمسه ونراه! وأفلوطين – كما تقدم- يرى أن هناك "الأحد" وهو الإله. وقد صدر عنه "العقل" وعن العقل صدرت الروح أو "النفس الكلية" وهذه أوجدت العالم المحسوس نيابة عن العقل! – وهذا العالم المحسوس أصله المادة. وهي أحط الموجودات. وهي "ظلام" ! وهي شر وفساد! … الخ … الخ. وحين توازن هذه التصورات المنتزعة من لا شيء! إلا من خيالات العقل البشري وتأويلاته، دون تلبس بواقعيات هذا الكون وحقائقه الموضوعية .. حين توازن هذه التصورات بالتصور الإسلامي، كما تمثله تلك النصوص القرآنية التي سردناها –وراءها في القرآن كثير- يتبين معنى "الواقعية" الذي نعنيه في التصور الإسلامي. كذلك يتعامل التصور الإسلامي مع الإنسان .. مع هذا الإنسان الواقعي، الممثل في هؤلاء البشر كما هم، بحقيقتهم الموجودة!. مع هذا الإنسان ذي التركيب الخاص، والكينونة الخاصة. الإنسان من لحم ودم وأعصاب. وعقل ونفس وروح، الإنسان ذي النوازع والأشواق، والرغائب والضرورات. الإنسان الذي يأكل الطعام ويمشي في الأسواق. ويحيا ويموت. ويبدأ وينتهي. ويؤثر ويتأثر. ويحب ويكره. ويرجو ويخاف. ويطمع ويياس. ويعلو وينحط. ويؤمن ويكفر. ويهتدي ويضل. ويعمر الأرض أو يفسد فيها ويقتل الحرث والنسل. إلى أخر سمات الإنسان الواقعي، وصفاته المميزة: (النساء: 1) (الحجرات: 13) (يس: 36) (المؤمنون: 12-14) (الإنسان: 1-3) (عبس: 17-22) (يونس: 12) (يونس: 21) (هود: 9-11) (البقرة: 204-207) وهكذا يتعامل التصور الإسلامي مع "الإنسان" الذي هو كائن واقعين له خصائصه، وله مشخصاته وله فاعليته وله انفعاله، وله تأثره وله تأثيراته.. لا مع معنى مجرد، أو فرض من الفروض لا رصيد له من الواقع. إنه لا يتعامل مع "الإنسانية" كمعنى مجرد، ولا يتخذها إلهاً يتوجه إليه بالعبادة بينما هذا المعنى المجرد لا وجود له، أو لا ضابط لهن في عالم الواقع.. ولا يتعامل مع "العقل المطلق". ككائن مشخص، لأن العقل المطلق ليست له كينونة واقعية. إنما هناك العقل المفرد، في كل فرد على حدة. ومن ثم فليس هو الذي يخلق الكون أو يخلق الروح. إنه يختلف عن "المثالية العقلية" التي تتعامل مع مقولات عقلية بحتة، لا صلة لها بالموجودات المؤثرة والمتأثرة في الكون والحياة. وفي الوقت نفسه يفترق عن "الوضعية الحسية" التي تتخذ من الطبيعة إلهاً يخلق العقل! ويخلق المدركات العقلية! فالله –في التصور الإسلامي- هو خالق "الطبيعة" وخالق "الإنسان"! والعقل الإنساني يدرك نواميس الطبيعة، ويتعلم قوانينها، ويتعرف إلى طاقاتها ومدخراتها، ويؤثر فيها تأثيراً إيجابياً، ويتأثر بها تأثراً حسياً وعقلياً .. في توازن واعتدال. وكأنما كان الإسلام –بل هو كان- ينظر من وراء القرون إلى هذه اللوثات التي ستصيب البشرية، على أيدي "الفلاسفة" و "المفكرين" المحدثين .. من "مثالية عقلية" إلى "وضعية حسية" إلى "مادية جدلية" … فصاغ تصوره في هذا التوازن العجيب. الشامل المتكامل. ليستقر منه الضمير البشري على قرار ثابت. وليعود إليه الإدراك الفصل. ويجد عنده الهدى والنور في متاهات العقول والأهواء؟ وصدق الله العظيم: (الإسراء: 9) (فصلت: 33) فأما المدلول الثاني للواقعية في التصور الإسلامي، فيتعلق بطبيعة المنهج الذي يقدمه للحياة البشرية. وواقعية هذا المنهج، مع طبيعة الإنسان، وطبيعة الظروف التي تحيط بحياته في الكون، ومدى طاقاته الواقعية الحقيقية: إن "الإنسان" –في التصور الإسلامي- هو هذا "الإنسان" الذي نعهده. هذا الإنسان بقوته وضعفه. بنوازعه وأشواقه. بلحمه ودمه وأعصابه، بجسمه وعقله وروحه … إنه ليس الإنسان كما يريده خيال جامح، أو كما يتمناه حلم سابح مع قضايا ذهنية من قضايا المنطق الشكلي! كما أنه ليس الإنسان الذي يضعه المنطق الوضعي في أسفل سافلين، ويجعله مخلوقاً من مخلوقات هذه "المادة" الصماء! أو من مخلوقات "الاقتصاد"! إنه الإنسان الذي خلقه الله ليستخلفه في هذه الأرض، فيقوم فيها بالخلافة الحركية الإيجابية، التي تنشئ وتبدع في عالم المادة ما يتم به قدر الله في الأرض والأحياء والناس. إنه الإنسان "الواقعي" كما أسلفنا. ومن ثم فإن المنهج الذي يرسمه له الإسلام منهج واقعي كذلك. منهج حركي. تنطبق حدوده على حدود طاقات الإنسان، وتكوينه وواقعية لحمه ودمه وأعصابه، وجسمه وعقله وروحه. الممتزجة في ذلك الكيان. والمنهج الإسلامي للحياة –على كل رفعته ونظافته وربانيته ومثاليته- هو في الوقت ذاته منهج لهذا الإنسان- في حدود طاقاته الواقعية- ونظام لحياة هذا الكائن البشري الذي يعيش على هذه الأرض. ويأكل الطعام، ويمشي في الأسواق، ويتزوج ويتناسل ويحب ويكره، ويرجو ويخاف، ويزاول كل خصائص الإنسان الواقعي كما خلقه الله. وهو يأخذ في اعتباره فطرة هذا الإنسان، وطاقاته واستعداداته، وفضائله ورذائله وقوته وضعفه .. فلا يسوء ظنه بهذا الكائن، ولا يحتقر دوره في الأرض، ولا يهدر قيمته في صورة ما من صور حياته. كما أنه لا يرفع هذا الإنسان إلى مقام الألوهية، ولا يخلع عليه شيئاً من خصائصها. كذلك لا يتصوره ملكاً نورانياً شفيفاً لا يتلبس بمقتضيات التكوين المادي، ومن ثم لا يستقذر دوافع فطرته ومقتضيات هذا التكوين الفطري. ومع اعتبار المنهج الإسلامي لإنسانية الإنسان من جميع الوجوه فهو وحده الذي يملك أن يصل به إلى أرفع مستوى، وأكمل وضع، يبلغ إليه الإنسان، في أي زمان وفي أي مكان. وليس هنا مكان تفصيل هذه الحقيقة. فسيجئ موضعها في القسم الثاني من هذا البحث عند الكلام عن حقيقة الإنسان.. فنكتفي هنا بهذا القدر. لنخلص منه إلى بعض النصوص، التي تصور واقعية المنهج الإسلامي، وانطباقها على واقعية الكائن الإنساني، مع الهتاف له دائماً بالرفعة والطهارة، وبلوغ أقصى كماله المقدر له في حدود فطرته. (الفرقان: 7-10) (الإسراء: 90-93) (البقرة: 286) (البقرة: 222-223) (البقرة: 216) (آل عمران: 14-15) (آل عمران: 133-136) (النساء: 34) (النساء: 74-76) (المائدة: 8) (الأعراف: 31-33) وكلما مضينا هكذا مع النصوص القرآنية التي تقرر تكاليف الحياة الإسلامية، وتضع حدود المنهج الإسلامي للحياة، لاحظنا "الواقعية" في هذا المنهج وانطباقها على واقعية الفطرة الإنسانية، وحدود طاقاتها الموهوبة لها، وحدود الاستعدادات المهيأة للعمل والنشاط. بحيث لا تكبت طاقة واحدة، ولا تكف عن العمل، وبحيث لا تكلف كذلك أكبر من وسعها، ولا تكلف ما ليس من طبعها وفطرتها. وتتجلى هذه الواقعية بوضوح حين ننظر مثلاً فيما تتطلبه العقيدة البراهمية من معتنقيها وحين نراها تطلب إليهم الكف عن كل ما ينمي أو يصون تكوينهم الجسدي، وذلك كي تسارع أرواحهم في الانطلاق من قيد الجسد، والخلاص من هذا "العدم" المظلم الناقص الشرير، والعودة إلى "الوجود" الكامل الخير المنير! كذلك حين ننظر إلى التصورات الكنسية التي اصطبغت بها النصرانية، ونراها تعامل التكوين الإنساني – المؤلف من المادة والروح- في حالة ازدواج مركب كامل –كما لو كان غلظة منكرة! يجب التخلص منها، والتطلع إلى هذا الخلاص في انفصال عالم الروح عن عالم الجسد، وفي استقذار كل ما هو جسدي على الإطلاق. فضلاً على تكليف الإنسان ما لا يطاق.. على سبيل المثال، معاشرة زوجة لا يطيق عشرتها. أو الانفصال عنها –دون طلاق- مع عدم معاشرة زوجة أخرى بعدها! .. وغير هذا كثير في التصورات الكنسية، التي تصادم فطرة الإنسان وتكوينه الواقعي! إن الإسلام دين للواقع. دين للحياة. دين للحركة. دين للعمل والنتاج والنماء دين تطابق تكاليفه للإنسان فطرة هذا الإنسان. بحيث تعمل جميع الطاقات الإنسانية عملها الذي خلقت من أجله. وفي الوقت ذاته يبلغ الإنسان أقصى كماله الإنساني المقدر له، عن طريق العمل والحركة، وتلبية الطاقات والأشواق، لا كبتها أو كفها عن العمل، ولا إهدار قيمتها واستقذار دوافعها.. ومن ثم تتحقق صفة "الواقعية" للمنهج الإسلامي الموضوع للحياة البشرية، تحققها للتصور الإسلامي ذاته عن الله والكون والحياة والإنسان. ويتطابق التصور الاعتقادي والنهج العملي في هذا الدين تطابقاً لا تفاوت فيه. ومن ثم ينطلق الإنسان بكل طاقاته، يعمّر في هذه الأرض ويغيرن وينمي في موجوداتها ويطوّر، ويبدع في عالم المادة ما شاء الله له أن يبدع. لا يقف في وجه حاجز من التصور الاعتقادين ولا من المنهج العملي. فكلاهما "واقعي" مطابق لواقعية الكينونة الإنسانية وللظروف الحقيقية المحيطة بها في هذا الكون من حولها. وكلاهما صادر من الجهة التي صدر عنها الإنسان، والتي زودته بطاقاته واستعداداته. ومن ثم يتسنى للإنسان، المؤمن بهذه العقيدة، المدرك لحقيقة التصور الإسلامي، وللمنهج الإسلامي المنبثق منه، أن ينشئ من الآثار الواقعية في هذه الأرض، وأن يحقق من الإبداع المادي فيها، وفاق ما ينشئه من الصلاح الأخلاقي، وكفاء ما يحققه من الرفعة والتطهر. في تناسق وتوازن وشمول وإيجابية وواقعية: (الروم: 30)
|